لم يكن الحج يوما مجرد طقوس و شعائر، بل هو علم و عمل، ثقافة و فكر، و اقتصاديات و انسانيات. و هنا نتكلم عن الحج كمنظومة حضارية تخبر عن الجهود، الفرص و الآفاق السابقة، الكائنة و المستقبلية. و تخبر أيضا عن قصص و حكايا لأخلاق و قيم و معاني تليق بأن يسمعها كل العالم و يدرك عظمة هذه الرحلة، و القائمين عليها، و السائرين فيها.
في مساء ثاني أيام شهر ذي الحجة من عام ١٤٤٠هـ ، كنت أستعد للخروج من المنزل متوجهاً إلى مكتبي لتجهيز أدوات التصوير التي ستشاركني رحلة البحث عن صور معبرة لضيوف الرحمن وللخدمات في المشاعر المقدسة. سمعت صوت جهازي الجوال يرن و حين أجبت كانت أ/ هبة قاضي تطلب مني الكتابة في مدونة (عالم الحج) للتحدث عن تجربتي في الاعمال التطوعية .
طلبها لاقى لدي استحساناً، واعطاني دفعه معنويه للكتابة خاصة وأنني سأكتب عن شي يعتبر بالنسبة لي ( حياة )، نعم يا سادة (التطوع .. حياة) . دعوني آخذكم إلى بداياتي في عالم التطوع .
نبدأ من العام ١٤٠٨هـ كنت حينها بالصف الرابع ابتدائي، لم يكن هناك مسمى للتطوع بما هو عليه اليوم، ولكنه كان يتجلى في اجمل صوره في حياة الكشافة، والتي دخلتها بكل حب ودعم من القائد الكشفي أ / إبراهيم النجار. كنت حينها نحيل الجسم، و أرتدي بدلتي ذات القميص السماوي، البنطال الكحلي والمنديل الأصفر. فأخرج بها بعد صلاة العصر من بيتي في حي العزيزية بمكة الى المعسكر الكشفي سيراً على الاقدام، ثم أعود مساءا بعد صلاة المغرب. صحيح أنني لم أكن أذهب إلا مره واحدة أسبوعياً، إلا أنها كانت تجربة رائعة. فقد كان الشبل فينا يتعلم في تلك الأيام كل جديد خارج أسوار العائلة والمدرسة.
وكان من ضمن ما مارسناه العمل الاجتماعي، أو كما علمونا ( العمل في خدمة المجتمع ) بلا مقابل مادي. وكان عملنا عبارة عن المساهمة مع رجال المرور في تنظيم حركة السير، أسبوع الشجرة، النظافة، وغيرها من الأنشطة.
ثم تطور العمل مع مرور السنين الى المشاركة في برنامج خدمة ضيوف الرحمن. و التي ابتدأت بتجهيز أكياس التمر قبل شهر رمضان بأيام، والنزول الى ساحات الحرم المكي الشريف قبل صلاة المغرب وتوزيعها على الصائمين من المعتمرين. استمر هذا العمل لسنين عديده حتى المرحلة الثانوية مع نخبة من قادة الكشافة بمكة اذكر منهم أ/ إبراهيم نجار ، أ/ محمد محراب ، أ/عبدالله بن جحلان ، أ/عبدالحفيظ عارف ، أ/وليد فلمبان وغيرهم كثير من الأفاضل الذين لا يتأخرون عن خدمة ضيوف الرحمن .
استمرت مشاركاتي في العمل المجتمعي بعد ذلك بصور أخرى عرفت منها ماهو التطوع بصفته الاحترافية. فكانت لي مشاركات مع الأطفال الايتام مع كبرى الشركات (أرامكو السعودية) من خلال برامج ترفيهية للأطفال ومشاركات في تنظيم الفعاليات وغيرها من البرامج التطوعيه، مثل زيارة دار المسنين وجمعيات المعاقين، وغيرها من المشاريع التي تشمل توزيع الوجبات والملابس على المحتاجين والمتعففين .
في عام ١٤٢٢ هـ بدأت العمل مع وزارة الحج، وبدأت معها رحلة تعلم العمل الحكومي. و حين تولي د. محمد بنتن قيادة دفة وزارة الحج والعمرة ، تم رفع فكرة تفعيل العمل المجتمعي في الوزارة، و جائت الموافقة لنبدأ العمل فعلياً على المبادرة. وتم عقد عدة اجتماعات وورش عمل مصغرة وأطلقنا في ذلك الوقت مبادرة برنامج ( كُن عوناً للأعمال التطوعية ) في الخامس عشر من شهر ذو القعدة للعام ١٤٣٨هـ وكُلفت مديراً تنفيذياً للبرنامج. بدأنا بفريق يتكون من ثمانية أفراد يترأسنا د. حسين الشريف وبإشراف عام من معالي وزير الحج والعمرة د. محمد بنتن.
خلال الخمسة عشر يوم الأولى من تدشين البرنامج كان العمل من قبل الفريق (بلا مبالغه) مستمراً على مدار الساعة. فقد تجاوز عدد المتقدمين للتطوع من كافة انحاء المملكة حاجز العشرة الاف متطوع ومتطوعه. سواء أفراد او فرق، سعوديين أو غير سعوديين، ذكور أو إناث ( والله إحساس رائع بالفخر والمسؤلية اجتمع في داخلي ذلك الوقت ). كان العمل عبارة عن تقديم خدمات صحية لضيوف الرحمن، وخدمات الترجمة والإرشاد. كما ساهم المتطوعون في تقديم المساعدات مثل رش الماء البارد، توزيع عبوات الماء والوجبات الجافة والهدايا على الحجاج.
أذكر أنني كنت في المقر وكانت الساعة تشير الى الساعه الثانية ظهراً يوم ١١ ذو الحجة. حضرت إحدى المتطوعات وكانت في جولة ميدانية لتقديم الرعايه الصحية وقالت : (هناك مخيم كامل يحتاج الحجاج فيه الى تضميد جراحهم في منطقة القدم لأن اغلبهم لا يمتلك حذاء!) و على الفور قام فريقٌ من (كن عونا) و الذي يضم طلاباً من كلية الطب بجامعة ام القرى، بزيارة المخيم وقاموا بآداء اللازم. وقمت حينها بالتواصل مع مدير عام جمعية هدية الحاج والمعتمر أ/ منصور العامر، واخبرته بالوضع والاحتياج فوفر لنا أكثر من ٢٥٠٠ زوج من الأحذية والتي وصلتنا من المستودع في وقت قياسي. شعرت في تلك اللحظه بأن الله سبحانه وتعالى يسرنا لعباده لتقديم العون لهم. فبناءا على الإحصائيات فإن أغلب هؤلاء الحجاج من كبار السن، واغلبهم من المصابين بداء السكري ! فعلا الحمد لله الذي سخرنا لعباده .
كم شعرت بالفخر عندما كنت أقف خلف إخواني المتطوعين وهم يقدمون خدماتهم لضيوف الرحمن .
كم شعرت بالفخر و أنا أشاهد أخواتي المتطوعات يحملن اجهزة رش الماء ( الثقيله ) لتلطيف الأجواء للحجاج اثناء سيرهم لأداء مناسك الحج.
كم شعرت بالفخر وأنا اساهم مع فريق عمل من أبناء وبنات وطني في رسم الابتسامة على وجه حاج متعب، او إعادة طفل تائه إلى أهله.
القصص في (كن عونا) كثيرة، اذكر منها، فتاة متطوعة حضرت مع أخوها خصيصاً من الرياض يوم عرفة. و قاموا بآداء صلاة العشاء في مسجد نصير بالإسكان ( مقر انطلاق المتطوعين إلى مشعر منى ) لينضموا معنا في خدمة ضيوف الرحمن.
ومتطوع اخر تجاوز عمره الـثالثة و الستون عاماً، اتصل بي شخصياً وقال: (ما تاخذوا واحد عجوز مثلي! ليش ما قبلتوني في المنصة؟) فضحكت وقلت له (ماشاء الله العدد كبير جداً ولكن ابشر) وتم اعتماده وشارك معنا في مجال الترجمة والإرشاد، وبصراحة استفدنا من خبراته في هذا العمل الجليل .
كلي شكر لرب العالمين على تلك الدعوات التي كانت تصلنا من ضيوف الرحمن عندما يعلمون بأن هؤلاء الشباب ( ذكور / إناث ) ما هم الا متطوعين يبتغون فضل الله. فعملنا كمتطوعين لم يقتصر على مشعري عرفات ومنى، بل استمر حتى في ساحات الحرم المكي، ووصولاً الى مراكز توديع الحجاج على مخارج مكه، سواء أثناء توجههم الى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو إلى مطار جده. كما كانت لنا مشاركات في توديع ضيوف الرحمن من مطار الملك عبدالعزيز بجده .
كل هذه الاعمال والرحلة التي لن تنتهي هي بفضل الله عز وجل ثم دعاء الوالدين الذي عرفت معناه مؤخراً من دعوات الوالده (الله يسخر لك عباده ويسخرك لعباده) .
دعوني في الختام أُذكركم ونفسي بقول الرسول الكريم ( ابن آدم ستون وثلاثمائة مفصل ، على كلِ واحد منهما في كلِ يوم صدقة ، فالكلمة الطيِبة يتكلم بها الرجل صدقة ، وعَون الرجل أخاه على الشيء صدقة ، والشربة من الماء يسقيها صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ) فعملنا التطوعي بشتى اوجهه واشكاله هو صدقه وعمل نبتغي به وجهه عز وجل. وتذكروا قوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) .